ظاهرة خطيرة فرضت نفسها خلال ما عرف بـأزمة "معركة المونديال" الكروية بين منتخبي مصر والجزائر، حيث أرست صحيفة "الشروق" ومثيلاتها من الصحف الجزائرية سابقة خطيرة في إشعال نار الفتنة بين جمهور الفريقين ونقلت الخلافات من حدود المستطيل الأخضر إلى شوارع القاهرة والجزائر ومؤخرا شوارع الخرطوم على نحو ربما لم يشهد التاريخ العربي مثله من قبل.
فعلى طريقة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، راحت الصحف تذكي نار الوقيعة بين البلدين بعدما نشرت تقارير ملفقة عن سقوط قتلى بين المشجعين الجزائريين والتمثيل بجثثهم وحوادث اغتصاب في صورة تفوق بشاعتها جرائم الصليبيين والمغول.
ولم يدر بخلد أحد أن تتصاعد الأحداث على ذلك النحو المأساوي كما جرت عليه خلال اللقاء المصيري بين منتخبي مصر والجزائر على أرض السودان منتصف الشهر الماضي، فبصرف النظر عن السلوك الذي وصف بـ"الإجرامي" للمشجعين الجزائريين الذين تم نقلهم بالطائرات الحربية إلى العاصمة الخرطوم قبل المباراة بثلاثة أيام لترويع نظرائهم المصريين الذين كانوا في غفلة تامة عما يدبر لهم ، فكان المحرض على كل هذا هو الصحافة الجزائرية.
فعلى هذا النحو تسارعت وتيرة العداء بين البلدين الشقيقين حتى وصل الأمر إلى صدور بعض التصريحات عن مسئولين رسميين على أعلى مستوى تطالب بالثأر لكرامة المصريين التي أهدرت مما حدا بالرئيس المصري حسني مبارك باشتراط تقديم الرئيس الجزائري بوتفليقة اعتذارا رسميا عما بدر من سلوكيات مشينة من جانب المشجعين الجزائريين.
والملفت للنظر إزاء هذه الأزمة ظهور فريق من الشامتين المتلذذين بما صارت عليه الأحداث حتى طالت النار، بل أكثر من ذلك بات المتابع للأحداث يسمع عن مطالبات بقطع العلاقات بين البلدين وطرد السفراء وسحب الجاليات على نحو كان ينذر بإعلان حرب بين الدولتين.
وقد استدعت هذه التطورات فتح ملف النهج الإعلامي لهذه الصحف التي اتخذت من ترويج الشائعات والأكاذيب وسيلة للشهرة ورفع أرقام التوزيع، كما طرحت عدة تساؤلات من بينها هل قوة تأثير وسائل الإعلام ينطبق عليها نظرية الرصاصة أو الحقنة تحت الجلد بحيث تصبح ذات تأثير مباشر وسريع في الجمهور إلى هذا الحد؟ أم أنها ليست بهذه القوة، وما حدث من أزمة بين مصر والجزائر له تداعيات أخرى ، هذا ما يبينه لنا الإعلاميون خلال السطور التالية ..
إعلام الجزائر كلمة السر
نموذج اخر لعناوين الصحف الجزائرية
يقول الإعلامي محمد صلاح مقدم برنامج "كلام مسئول" ومدير مكتب جريدة "الحياة" الدولية في القاهرة، إن أزمة مصر والجزائر لم يكن ورائها قوة وسائل الإعلام المباشرة، ولكن الإعلام الجزائري هو المسئول عن إشعال الخلافات حيث أنه ليس لها تراث طويل بسبب سيطرة الاستعمار على بلاده لأزمان طويلة وبالتالي بدأ متأخرا جدا في منتصف الستينات، ولذا ارتكبت الصحافة الجزائرية أخطاء عجيبة وجديدة على عالم الصحافة تتجاوز حتى الصحافة الصفراء.
ويضيف صلاح أنه من المعروف أن الإعلام لا يمنع نشر الآراء الحادة أو المتطرفة والتي قد تحتوي على سباب وقدح وذم ولكن لا تخرج عن إطار كونها آراء، ولكن الغريب هو اختلاق الصحافة الجزائرية لمعلومات والإصرار عليها وبناء مواقف عليها والبحث عن أساليب لتأكيدها والأغرب عدم الاعتذار عنها حتى بعد كشف كذبها، بل على العكس تم الانتقام ممن يكشف كذبها.
وفي المقابل يتميز الإعلام المصري بأنه ذو تراث عريق حتى أثناء الاحتلال كانت في مصر صحافة وإعلام، ولذا مهما حدث فله سقف لتجاوزاته لا يتعداها. حتى في ظل اشتعال الأزمة لم يصل لما وصل إليه الإعلام الجزائري.
ويوضح محمد صلاح أن ما تردد على الفضائيات المصرية من هجوم شديد وتأجيج لمشاعر المصريين فكان نتيجة لتحدث كل من لديه كاميرا وأمامه ميكرفون في الموضوع، وبالتالي اختلط الأمر و تحول المذيع الرياضي إلى محلل سياسي.
الكل أشعل الحرب
أصبح لاعبو الكرة، وبهم عدد كبير غير مؤهلين للعمل الإعلامي، وهم من أصبح لهم برامج نظرا لعلاقاتهم الرياضية الجيدة والتي تؤهلهم للعمل كمعدين وليس كمقدمين، حيث تحتاج هذه المهنة مؤهلات وموهبة غير موجودة لدي بعضهم. ولذا عندما قلبت الأزمة سياسية أصبح هناك خلط وتجاوز بالرغم من عدم وجود قلب للحقائق ولو الفضائيات المصرية استخدمت اختلاق المعلومات فكانت سوف تحقق تأثيرات، ولكن الإعلام المصري دائما له سقف لا يتجاوزه.
ويؤكد مدير مكتب "الحياة" بالقاهرة أن ما نستخلصه أن الإعلام ليس بهذه القوة في التأثير ولكنه أحد العناصر المهمة في إحداث الأزمة، وخاصة في وجود اجتهادات من جانب جريدة الشروق وأيضا تغذية بعض برامج التليفزيون المصري الرسمي والفضائيات المصرية بتصريحات وتسريبات من السياسيين أو المسئولين أو القائمين على الرياضة.
وفي البداية كانت هناك حالة انفلات ولكنها اكتسبت مصداقية كبيرة ساهمت في تأجيج المشاعر، وعندما ظهرت إرادة سياسية لتخفيف الأزمة تغير الوضع وتحول الإعلاميون إلى الطريق الصحيح أي أنهم كانوا على خطأ منذ البداية.
الدور الأخطر
ويشير صلاح إلى الأعجب والألطف من مواقف الصحف والفضائيات وهو ما يعد تجاوز يصل إلى حد الجريمة، وهو ما فعله مواطنون جزائريون على مواقع مثل اليوتيوب، حيث أن حادثة حرق علم مصر بالجزائر صوره أحد الجزائريين وأيضا اقتحام الشركات المصرية هناك و تحطيمها، صورها أيضا جزائريون، معتبرين انها نوعا من أنواع التسلية تحقق لهم السعادة ولكنهم بهذه التصرفات أثبتوا أنهم أشخاص مغيبون وتطور معهم الأمر إلى الفُجر في الخصومة.
ويضع صلاح يده على الجرح المصري قائلا إن ما يراه البعض من تقصير لدى وسائل الإعلام المصرية مقارنة بالجزائرية، فهو لا يخصها وحدها بل أن مصر تعاني من قصور في إدارة الأزمة على كافة المستويات، حيث يرتبك الكل ولا يعرف كيف يتصرف، وتتضخم الأزمة دون إيجاد حل لها.
شهوة الإثارة
أما الإعلامي جمال الشاعر رئيس قناة "النيل" الثقافية، فيصف ما حدث بأنه نوع من الفوضى الصحفية والإعلامية وعدم الالتزام بالأخلاق الإعلامية التي تراعي السلام الاجتماعي والعلاقات بين الشعوب، حيث تجاوزت الصحف والفضائيات ذلك إلى شهوة الإثارة وتحقيق السبق بينما عيونهم على شباك التوزيع .
ويبين الشاعر أن هذه الأزمة للأسف أوجدت حالة من حالات تزييف الوعي وترجيح كافة الأهداف التجارية والمادية على حساب مصالح الوطن. مما أعطى الفرصة لكثيرين بركوب الموجة واستغلال الانفعال والغضب الجماهيري متناسيا وظيفته الأساسية كإعلامي محترم يوصف بأنه "حارس البوابة" الذي يحمي مكانه من أن يطلق عليه الناس النار فيتسبب ذلك في حروب، فعليه أن يكون أمينا على مصالح بلاده وعلاقات الجوار والأخوة والروابط العربية.
وضاعت الحقيقة
واشتعلت الدنيا في مصر والجزائر وحدوث مزايدات للحد الذي ضاعت معه ضاعت معه الحقيقة، وكلا الطرفين يتهم الآخر بالبدء في العدوان.
وينصح جمال الشاعر بإتباع ضبط النفس الذي يعد في غاية الأهمية والإعلام الرياضي خاصة في حاجة ماسة وسريعة له. . ويعلق الشاعر على الفضائيات الرياضية بقوله :" زمان قال يوسف وهبي "وما الدنيا إلا مسرح كبير" والآن يمكن القول "وما الدنيا إلى كورة مدورة وملعب كبير".
عوامل إشعال الأزمة
بينما تؤكد د. نجوى كامل أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، أن فتيل الأزمة المصرية الجزائرية والتي أشعلتها جريدة "الشروق" الجزائرية لا يرجع إلى قوة الصحيفة أو قوة تأثير وسائل الإعلام على الجماهير، وكثيرا ما تثير الصحافة أو التليفزيون توجه الجمهور لتبني موقفا معينا ولكن الناس قد لا تهتم ولا تستجيب لهذه الدعوات، ولكن أزمة مصر والجزائر تحكمها معايير أخرى.
وتلخص د. نجوى هذه العوامل في نوعية القضية وهي خاصة برياضة كرة القدم التي تحظي باهتمام كبير وشعبية جارفة في كلا البلدين، أيضا الإحساس بالغدر والإهانة مرة عندما أشاعت "الشروق" خبر مقتل جزائريين في مصر، وبعد ذلك ما أحسه المصريون نتيجة ردود فعل الجزائريين وتعديهم عليهم على أرض السودان.
العنف طبيعة جزائرية
هكذا يرى البعض الشروق وتضيف أن التركيبة السكانية في الجزائر تختلف عن مصر، حيث تحتوى الأولى على نسبة كبيرة من الأمازيغ " قبائل البربر في الجزائر"، والذين يرددون دائما أنهم مسلمين ولكنهم ليسوا عربا، ولذا نجدهم أكثر حرصا على عدم التحدث باللغة العربية، بجانب أن طبيعة الجزائر كبلد طبيعة عنيفة فهي مليئة بالجبال وعانى شعبها من الاحتلال طويلا ثم من الإرهاب مما انعكس على طبيعة الشعب نفسه وأصبح أكثر عنفا.
وتوضح د. نجوى كامل أن العنف في تشجيع رياضة معينة لا يعني بالضرورة الهمجية، فلا أحد يًنكر أن الشعب البريطاني شعب متحضر ولكن في مباريات كرة القدم من أسوأ المشجعين.
وتؤكد أن من الجزائريين المثقفين والمعتدلين الذين لا تخرج عنهم تصرفات مثلما حدث في السودان، موضحة أن كل هذا الشحن للجزائريين نابع من موقف رسمي يهدف إلى إلهائهم عن مشكلات معينة اقتصادية وسياسية وغيرها بالتفريع في مباراة كرة قدم.
بعيدا عن المصداقية
وبالعودة إلى ادعاءات صحيفة "الشروق" الجزائرية وكيف أنها لا تخاف فقد مصداقيتها فيما بعد، توضح د. نجوى أن هذا النمط من الصحف لا يخاف على فقد مصداقية أو ثقة، وقد اكتشف المصريون كذبها ومبالغتها، ولكن الوضع يختلف بالنسبة للجزائريين الذين يروا عكس ذلك تماما ولهذا قاموا بالهجوم على المصريين هجوما عنيفا.
وترد د. كامل على ادعاء البعض بأن مصر فشلت في تغطية هذه الأزمة إعلاميا بينما تفوقت عليها الجزائر في هذا الصدد، قائلة بالعكس مصر تملك عدة قنوات فضائية وعددا كبيرا من الصحف، في المقابل تملك الجزائر فضائية واحدة تابعة للحكومة، وأربع قنوات أرضية أخرى، وعددا قليلا من الصحف، وبالتالي كفة الإعلام المصري رجحت.
وتختم د. نجوى كامل حديثها بأن وسائل الإعلام المصري ارتكبت في ظل هذه الأزمة أيضا تجاوزات ولكنها في النهاية لم تصل بأي حال من الأحوال إلى ما ارتكبته وسائل الإعلام الجزائرية، ولذا يصعب المقارنة بين الإعلام المصري والجزائري.